المدوّنة

الحديقة العامة في حلب

كندا الشيخ علي يونيو 13, 2017

” كندوش وينك؟ نحنا بالحديقة العامة قومي تعي ”

– ” جاي فورا بس بالاول بدي امرق بدل تيابي لانو لبسي قصير، مو مناسب للحديقة العامة ”

– ” لا، لاتبدلي قاعدين عند الباب اللي من طرف المحطة ”

– ” طب ماشي، مسافة الطريق ”

هنا حلب… هنا الحديقة العامة…

هذا هو المكان الذي يتسع لجميع تناقضات الشعب السوري الواحد.

هنا فقط تجد ساحة ألعاب الأطفال التي يسمح فقط للنساء والأطفال بالدخول اليها… هنا لا يمكن للأب أن يصطحب أولاده و يلاعبهم ليس لأنها مهمة ألأم … بل لأن النساء “بدن ياخدوا راحتن”

يقف أحد الرجال مدهوشا من هذا الفصل اللا منطقي، و أمامه يقف رجل آخر مندهشاً من استغرابه من هذا الأمر البديهي و الذي لايحتمل النقاش ومستعد لضربه في اللحظة التي قد يفكر بها بالدخول لتفقد أطفاله.

في زاوية اخرى تجد رجلان كبيران بالسن جلسا ينعمان بحرارة الشمس و “يدفئان عظامهما بعد هالشتوية القاسية.”

فتاة في مطلع العشرينيات بملابس تدل على الرخاء و شعر طويل مرتب بعناية تتنزه مع “دوني” الجرو الصغير والذي بدأ بالنباح مباشرة عند مروره بجانب “لوسي” جروة ابن صديقة والدتها.. و هما بغاية السعادة. قد يكون شجار الكلبان بداية لقصة حب كبيرة وحقيقية وجادة… غالبا تنتهي بعد دخول الشاب الى الجامعة.

فتاة أخرى تقرأ كتاباً و تدخن سيجارتها دون اكتراث لمحاولات الكثيرين التقرب منها و… “باعتبار أنها تدخن في مكان عام فهي حتما….”

رجل يتناول صنويشة الفلافل بسرعة لكي يلحق بالحافلة، بعد عناء يوم طويل لمحاولة إنهاء أوراق في دوائر الدولة والتي انتهت بأنه يجب أن يأتي في الأسبوع القادم لأن مديرة الدائرة في إجازة مرضية ويجب عليه أن ينتظر للأسبوع القادم ويدعو لها بالشفاء، لعله ينتهي من مسلسل المعاملات والأختام والتواقيع الذي لا نهاية له.

شاعر يجلس متأملاً باحثاً عن الالهام… فتاة تبحث عن عريس الاحلام.. طلاب هاربون من المدرسة يختبئون ليدخنوا السجائر ..عدد لا يحصى من قصص الحب التي بدأت، أو انتهت….

17 هكتارا… على شكل مسدس غير منتظم… محاطة بسور حجري… تحتوي على تنوع بشري “أعتقد” أنه يعادل أو يزيد على التنوع النباتي في الحديقة.

وهذه ليست سوى عينة صغيرة ولكن مكثفة من تاريخ وثقافة وتنوع سوريا..

افتتحت الحديقة عام 1949 في حي محطة بغداد، بعد قرار المهندس مجدالدين الجابري، والذي كان قد انتخب لإدارة مجلس مدينة حلب عام 1947 باستملاك “النافعية” في منطقة باب الفرج قلب المدينة المملوكة آنذاك لآل “الجابري” لصالح مجلس مدينة حلب. أجاب حينها رئيس البلدية أقاربه الذين اعترضوا بدهشة على قراره:

“هذه ملك حلب، أخذها جدي نافع باشا هدية من السلطان العثماني، وأنا أعيدها لسكان حلب ”

لتصبح هذه الحديقة مقصدا لكل ساكن او زائر…

ولكن للأسف.. مثل أي جزء أخر من هذا الوطن الحبيب.. كان للحديقة حصتها من الدمار.. و الألم

قد يكون الضرر المادي ضئيلاً بالنسبة لباقي المدينة… ولكن هناك ماهو أصعب بكثير من الدمار المادي

هذا المكان الذي كنت اقصده أثناء عودتي من العمل، لأجلس قليلاً و أتنفس هواء منعشاً وأسترخي و أراقب و أتمعن في الاختلافات بين البشر… أصبحت أتجنب المرور فيه، أو حتى بمحاذاة سوره.

أصبحت حديقتنا الآن مأوى لبعض الذين دمرت منازلهن، بعض الشراشف القديمة والبطانيات الممزقة أصبحت جدرانا وسقفاً لعائلة… بعض المرضى النفسيين و المضطربين عقليا لجأوا هنا ايضاً، بعد ان دمر مشفى الامراض العقلية وأصبح عبارة عن ثكنة عسكرية يتناوب اطراف النزاع على السيطرة عليها…

تلك السعادة، ذلك الرضا… تحولوا الى مأساة..

المكان الذي كنت أقصده للاسترخاء، أصبحا مكاناً حزيناً، بائسا، لم أستطع أن أنجو من البكاء بعد مروري الذي حاولت أن يكون سريعاً… شعور غريب بالذنب تجاه هؤلاء الناس … لا أدري ربما لأن منزلي لا يزال سليماً، أو لأن لدي مكان للاستحمام ..أو لأن لدي ما آكله … شعور غريب بالذنب تجاه شيء لاذنب لي به…

ولكن قد يكون احيانا للشعور بالذنب جانباً ايجابياً، ربما الرغبة بالمساعدة، أو محاولة إيجاد حل ما قد لايجدي، ولكن يستحق المحاولة…

المكان الذي ضم الجميع في الماضي، قد يكون نقطة الانطلاق لضمهم من جديد…

ربما عن طريق نشاطات مشتركة بين الأطفال والنساء من كافة فئات ومناطق المدينة، في هذه الحديقة التي كانت تجمعهم رغم اختلافاتهم، قد تجمعهم ايضاً مرة اخرى.

أعتقد أن هذه الحديقة يمكن ان تأخذ دوراً بارزاً في “تقريب التفوس”، فهي المكان الذي يجمع هذه الأطياف المختلفة، لذلك أقترح أن نوليها اهتماماً خاصاً في المرحلة القادمة، مرحلة إعادة البناء، المادي والإنساني، لأن بناء الإنسان يجب أن يتم أولاً.

علينا ان نتوجه بزرع مفاهيم التآخي والمحبة عند الأطفال، لأنهم ما يزالون في مرحلة البراءة، و لم تتشوه افكارهم و قلوبهم بالحقد بعد.

هنا فقط يبرز دور دمج الاطفال “من آباء” ينتمون لأعراق أو أديان أو مذاهب أو طبقات مختلفة، بنشاطات تهدف الى إلغاء الحواجز الوهمية التي يزرعها المجتمع و خلق نوع من التعاون لتحقيق هدف معين وجميل.

مثلاً يمكن إنشاء فرقة موسيقية تجمع هؤلاء الأطفال، بحيث يدرسون المبادئ الموسيقية معاً ويتعلمون ويتدربون معاً، و يكون الهدف تأدية قطعة موسيقية في الحديقة بمناسبة عيد الطفل مثلاً أوعيد الحب.

أو مثلاً مسرح للعرائس أو حتى عروض مسرحية قصيرة، بحيث تقدم عروضاً تهدف إلى تعزيز روح المحبة والتعاون والتسامح، و إبراز الدور السلبي للحقد والكره والفكر الطائفي، ومن الجميل أن تكون أفكار العروض مستوحاة من قصص قصيرة يكتبها الاطفال بانفسهم.

إنشاء فريق كرة قدم أو كرة سلة يكون اسمه فريق حلب، وليس “الاتحاد” أو “الجلاء” أو “الحرية ” بما تحمله هذه الاسماء من رمزية طائفية.

يجب أن لا نيأس من محاولة أن ننشئ جيلاً جديداً يستمع للموسيقا ويؤمن بالمحبة.. ويمارس الرياضة… و ينتمي فقط للإنسانية، ولا بد من الاستمرار بالحلم، و السعي لتحقيقه. فربما يمكن للأطفال الذين يدفعون الآن ثمن تهور وأنانية الكبار أن يكونوا بذرة السلام من جديد .

نعم، هؤلاء الأطفال الذين كانوا يلعبون هنا منذ 20 عاما و كبروا الآن ليصبحوا أعداء… ربما يكونوا قد أنجبوا أطفالاً يلعبون هنا و يجمعون شمل البلاد من جديد.

كندا الشيخ عليالحديقة العامة في حلب