المدوّنة

مشهد تصرخ إليه حلب

رامي عبود أكتوبر 13, 2015

تناوب العين للأعلى تارة، وبصورة افقية تارة أخرى لتستوعب المشهد بكامله، فقلعة حلب بحجمها تجعل المشهد الإنساني حولها هامشاً يكوّن إطاراً يعطيها الحياة، فتعطيه المعنى. هذا المشهد يربط القلعة مع التجار و الحرفيين في سوقها بعلاقة تكافلية تفصلهم عن باق سكان حلب من جهة، و تحول الحلبيين الى مراقبين و فاعلين في هذا المشهد من جهة اخرى، إذ يشكلون عصب الحياة لهذا التفاعل. يجلس جمهور هذا المشهد في المقاهي المصطفّة بميمنة باب القلعة، ليشهدوا على هذا التفاعل المتناغم مع صوت صباح فخري، فلا يستطيعون الهروب من مخيلتهم الرومانسية المصطفاة بعبارات فانتازيّة تجعل من ارغيلة القلعة او كأس الشاي الأفضل في المدينة، لا بل الأفضل ابداً. ليس وحدهم أبناء المدينة من جيل الشباب من يعمم هذا المشهد، إذ تجد السياح و المستشرقين يحجّون لرؤية هذا المشهد، و لكنهم يختلفون عن جمهور المدينة، فهم يجمعون الحجر و البشر بلوحة تاريخية، فالمسوامة مع التجار بالنسبة لهم هي رحلة في التاريخ تنتهي بعودتهم الى بلادهم ليعمموا هذه اللوحة عبر مخيلاتهم الرومانسية عن الشرق العالق في زمن ما قبل الحداثة.

 أما بالنسبة لشخصيات هذا المشهد، فهذا أسلوب حياة سبق بحداثته الحداثة الأوروبية و تعامل معها كشريك تجاري، لا كمنهل للحداثة. بالنسبة لهؤلاء الحداثة الأوروبية أضرت بهم، حيث تجد إقبال الحلبيين على السوق، بالرغم من زخمه، قد ضعف. افقر تمثيل لهذا الضعف هو عدم وجود مصف لسيارات الحلبيين، وأغنى تمثيل، يتمثل بالضرائب التي ارتبطت بنشوء الدولة القومية والتي انهكت الحرفيين تحديداً، بالرغم من غنى الكثير منهم. إلا أن كل ذلك لا يمنع المراقب من اطلاق مخيلته في الحديث عن جمال السوق الحجري الذي يشكل اقدم مول في العالم بعمر يناهز ألفين و أربعمئة عام، أو الحديث عن دهاء الأطفال من أبناء التجار والحرفيين الذين يذهلون الزبائن بقدراتهم الحسابية، ومعرفتهم للعديد من اللغات شفهياً. بالنسبة للمراقب هم محط إعجاب، اما بالنسبة لهم فهذا أسلوب حياة وجزء من المهنة. العمل في السوق منذ سن مبكرة بجانب الدراسة الإالزامية او بدونها لا يعكس بالضرورة الحالة الاقتصادية لعائلات التجار والحرفيين، وإنما تقليد متوارث يستمد من القيم الاجتماعية و الاقتصادية، التي تقوم على الاقتصاد العائلي لا الفردي.

يبدأ هذا المشهد في ذاكرتي من مدخل سوق الزرب، يليه سوق العبي فسوق العطارين. هناك تأخذك رائحة الفلفل الأحمر، الذي تشتهر به حلب، ويختلط بمذكرة الحلبي مع رائحة القرنفل، الزعتر الحلبي والزهورات، و تضيف إليه رائحة الغار حنين يعّرف انتماء كل حلبي. وإذا كنت محظوظاً فقد تشهد في أيام الاحتفالات الدينية المولويون يسبّحون الخالق بالرقص الدائري، معبرين عن زهدهم بالدنيا و تسامح الاسلام المتطلع نحو الخالق. ترافقك الأناشيد الدينية الى أن يسيطر على المشهد صخب الباعة عند وصولك الى سوق اللحمة، تكمل في هذا الطريق الى ان تصل الى مخرج يوصل الى الجامع الأموي الكبير، و اذا أكملت حتى السبع بحرات تجد الكنيس الموسوي الأقدم في حلب. قصة التقارب الديني هذه في مدينة تعتبر الأكثر تديناً في سورية تنتهي بك في الشمال الغربي للمدينة القديمة في منطقة الجديدة، فتخبرك أحجارها و كنائسها السبعة عن القصة المسيحية لهذه المنطقة. فميلادها يبدأ بعد غزو تيمورلنك حلب وتشرد مسيحيي المدينة الذين أحرقت بيوتهم عام 1400م، فما كان لهؤلاء إلا بناء محلة جديدة لهم، و بذلك تشكل الجديدة أجد مناطق حلب القديمة. قصتها تخبرنا أن عصيان عام 1850 ضد الحكومة ،و الذي انتهى بنهب الجديدة و قتل 14000 من مسيحيها، و كذلك احداث الإخوان المسلمين عام 1982 كلاهما نشأتا من نفس المناطق التي قامت ضد الحكومة في عام 2012، وهي للمفارقة، تشكل حزام المناطق الأكثر فقراً في حلب وريفها. هذه المقاربة لا تعكس بأي حال تحليلاً ماركسياً او طبقياً للحرب الراهنة، و انما  تعرض جانباً اجتماعياً هاماً من جوانبها، يعبر عن أهمية دور التنمية الاقتصادية للمناطق الفقيرة، و خاصة في الريف الحلبي. في الواقع، إن قصة التعايش في حلب سواء بين المختلفين دينياً او سياسياً، لم يكن عمادها القيم اوالأعراف فحسب، وإنما سياسة المكان المشترك وثقافة الانفتاح التجارية لأهالي المدينة التي وضعت أسس العيش المشترك. نلاحظ مثلاً، أن المناطق الأكثراشتراكاً في المساحة المعيشية بين الطبقات و الطوائف، تشهد نوعاً من التقارب أو الوحدة الطبقية. مثل هذا التقارب يكمل المشهد الحلبي، بدخولك شارع بارون و العزيزية و ينتهي بالليرمون. ومن هنا تتغير المساحة المشتركة بين الناس لتصبح مساحة  لسباق الحداثية، فينقسم المجتمع لبيئات محافظة و أخرى حداثية (أي متمثلة بالنمط الغربية). و بالتالي فإن علاقاتهم الاجتماعية تتمحور وتأخذ شكل بيئتها الحاضنة و المساحة المشتركة التي تعرّف انتماءهم. في المستقبل حلب ستكون بأمس الحاجة الى البراغماتية التي تأخذ طابعها من تاريخ اهلها، ليستطيعوا في مرحلة ما بعد الحرب تخطي الاختلاف من خلال تقبل الاخر على اساس التشارك في الحياة اليومية و الاختلاف في آن واحد. أبناء حلب اقاموا حياتهم بناء على ذلك في الماضي ووحدهم هم من يستطيع احياء هذا المشهد.

Rami Aboud رامي عبود، باحث سوري من مدينة حلب، مختص في الدراسات الشرق الأوسطية، و النزاعات المسلحة بالتركيزعلى سورية و فلسطين. حاصل على درجة الماجستير في السياسة و العلاقات الدولية في الشرق الأوسط من جامعة إكزيتر في بريطانيا. عمل كباحث مساعد في قسم الدراسات الشرق أوسطية مع الدكتور مايكل دامبر في جامعة اكزيتر، و هو يشارك حالياً في دراسة يرعاها المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية ، حول مفهوم الدولة الاستيطانية في فلسطين، و تغير مفهوم العنف في مرحلة ما بعد النزاع  و نشوء إسرائيل في عام 1948. مبحثه الرئيسي هو النزاع المسلح في حلب، بحيث يحاول رسم الرواية التاريخية لهذا النزاع بصورة تسهم في تقديم دليل للبناء الاجتماعي لمرحلة ما بعد الحرب. للتواصل اضغط على الرابط التالي LinkedIn

رامي عبودمشهد تصرخ إليه حلب