المدوّنة

هواة الموسيقى الحلبيون – السميعة

Clara Wenz مارس 23, 2016

يكني عشاق الموسيقى العربية حلب بـ “أم الطرب.” على الرغم من أن المصطلح “طرب” يستخدم حاليا لتوصيف أي موسيقى عربية تقليدية، تشير كلمة طرب بالحقيقة إلى نمط محدد من الموسيقى كان مشهوراً من القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين.

في ذاك الوقت، كانت حلب مركزا لثقافة الطرب ومسقط رأس العديد من مشاهير المغنين والعازفين والملحنين. أحد أهم عوامل شهرة حلب الموسيقية كان مجموعة تدعى السميعة. السميعة هم مجموعة من مستمعي الموسيقى المخضرمين من ذوي العلم والثقافة. كان السميعة مشهورين بكل أنحاء العالم العربي لكمّ خبراتهم وذوقهم الرفيع. كان مجتمع أهل الطرب الموسيقي مكون من هؤلاء السميعة وموسيقيي المدينة.

يفتخر الحلبيون اليوم بهذا الإرث من السميعة الذي تمتلكه مدينتهم. فمن المعروف أن العديد من عمالقة الطرب لم يستطيعوا الوصول للشهرة قبل أن ينالوا رضى سميعة حلب. أحد الأمثلة هي قصة حول المطرب المصري الشهير محمد عبد الوهاب. عند بداية مسيرته الموسيقية في الثلاثينيات من القرن العشرين أتى محمد عبد الوهاب ليغني في حلب. أثناء حفلته الأولى، دهش الفنان عندما رأى أن جمهوره اقتصر على مجرد حفنة من المستمعين لكنه قرر أن يغني على الرغم من ذلك. أثناء حفلته الثانية وبعد أن انتشر رضى السميعة عن قدراته الموسيقية، امتلأت القاعة بأكثر من ألفي شخص أتوا للاستماع له.

لم يكن سميعة حلب المحترفون نقاد موسيقيين وحسب. كان العديد من المغنيين والموسيقيين يعتمدون على السميعة لخلق الجو الطربي المناسب لحفلاتهم. كان يجب على السميعة أن يكونوا مع الفنان، حيث أن مشاعرهم تتناسق مع مشاعر الفنان وآذانهم كانت مدربة لفهم كل الحركات الموسيقية. في اللحظات المؤثرة من الموسيقى، كان من عادة السميعة أن يتجاوبون بإطلاق صيحات نشوة كالتالي “آه!” “الله!” “يا عيني!” “يا روح!” لدفعه لامتاع الجمهور أكثر.

هذا المقطع من إحدى حفلات المغني أديب الدايخ الحلبي المولد (1938-2001) أحد الأمثلة عن هذه الصيحات الفريدة من نوعها التي يطلقها السميعة. يغني الدايخ موالاً من موالات حلب الشهيرة مصحوبا بموسيقى الناي. حتى أن هذه الصيحات تشبه أحيانا صوت الناي وأحيانا اخرى تقلد صوت المغني بنفس النبرة (كما هنا 25:00) وأحيانا أخرى حتى المغني ينضم للسميعة مطلقا صيحاتهم “الله!” و “روحي روحي يا محمد!” (مثلاً عند الدقيقتين 28:01 و 32:00)

حوالي الدقيقة 52:00 عندما ينطلق الدايخ بمديحه لليلى السمراء يحدث حوار جميل بينه وبين السميعة. ليلى هي حبيبة الشاعر الأموي قيس بن الملوح. يحكى أن ابن الملوح هام في الصحراء في آخر عمره ينشد قصائد غزل حتى مات عندما ماتت ليلى بعد أن أجبرت على أن تتزوج رجلا آخر. هوس الملوح بليلى هو السبب وراء تسميته بالمجنون. قصة الحب هذه أصبحت معروفة بعد ذلك بين العرب والفرس باسم ليلى والمجنون. في هذا الحوار ينشد أديب الدايخ قصيدة عن قصة حب بين صبي شاب وليلى حيث يحاول الشاب أن يشفي حبيبته عندما كانت مريضة. بعد ذلك ينطلق بمدح سمار بشرة حبيبته مشبها اياه بالمسك الأسود.

ينفجر الحشد ابتهاجاً في الجزء الأخير ويصيح أحد السميعة جازماً “هلق اللي عنده سودا، شنَّك أدنيه”… “اللي عنده سمرا يقف ع حيله” فيما يؤكده الحاضرون بقولهم “لكَن! لكَن!”. بعد أكثر من دقيقة من التعليقات الطريفة وابتهاج الحاضرين يمدح أديب الدايخ الجمهور قائلاً “الفضل لأرواحكن الحلوة اللي عبتخليني أنشد، الفضل لألكن والله” يرد أحدهم من بعيد “الفضل لإلك أديب.” فيجيبه آخر فوراً “كني عندك سمرا! من هالشي طلع صوتك.” يقاطع المطرب هذه الثرثرة أخيراً ويستمر في مواله ليتم لاحقاً مقاطعته مجدداً في دفعة جديدة من الابتهاج والمدح والهتافات المرحة.

بالرغم من أهمية حسن الجمهور في الأغاني غير الدينية، تبرز أهمية الجمهور أكثر في الأغاني الدينية. فكما يقول القرآن “وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ” (سورة الأعراف، الآية 204).

بالرغم من تفضيل بعض علماء المسلمين الصمت عند استماع القرآن، تسمح عادات حلب للمستمعين بالإجابة إن كان ذلك يظهر الاندماج مع القراءة وليس التشتيت عنها. استمع للمثال التالي

المسجل في المسجد الأموي الكبير في حلب عام 1958 للقارئ المصري الشهير عبد الباسط عبد الصمد حيث تستطيع على طول التسجيل سماع صدى صوته مع مزيج تنهيدات النشوى وأصوات التحفيز والتأييد من المستمعين. يصيح في عدة مرات (على سبيل المثال: الدقيقة 14:30 و 16:10) أحد السميعة باللهجة الحلبية الثقيلة المميزة “الله! الله يعطيك من فضله وإحسانه.” مقارنة مع الصمت في قاعات الحفلات الموسيقية الكلاسيكية، يوجد في الواقع شيء سحري ومحسن في هذه الحميمية والتقدير المشترك للجمال اللحني حيث يصبح صوت الجمهور جزءاً من الأداء الموسيقي ذاته.

يصف الناقد الموسيقي والعازف المصري كامل الخلعي (1881-1931) المستمع الجيد على أنه شخص منشرح، حسن النية، شخص يتأثر بعمق وصدق بما يستمع إليه ويعلم بقية الجمهور كيف ينصتون. ما من شك بأننا نستطيع تعلم شيء من إرث حلب في احترافية الاستماع، فهم يذكروننا بأهمية الجمهور الحسن ويعلموننا كذلك أن الاستماع عمل إبداعي وأنه يجب تشجيع ثقافة التفاعل مع المغني. نستطيع حفظ إرث حلب الموسيقي اليوم وأن ندرب أنفسنا على أن لا نقدم السيل الحالي من المواد الإعلامية التي تظهر دمار المدينة وإنما التركيز على ما لم يتم سماعه بعد.

تمت كتابة هذه المقالة بالتعاون مع الحكم شعار وهي مستقاة إلى حد ما من الكتابين التاليين: Jonathan Shannon (2009) “Among the Jasmine Trees” and Ali Jihad Racy (2004) “Making Music in the Arab World: The Culture and Artistry of Tarab”. كلا الكتابين مراجع ممتازة. يخص الأول الموسيقى السورية فيما يتعلق الثاني بالطرب.

زارت كلارا وينز حلب لأول مرة في العام 2008. عملت وعاشت لعدة سنوات في سوريا ولبنان ومصر بعد تخرجها من كلية الفلسفة في جامعة ميونخ عام 2010. تدرس كلارا الدكتوراة حالياً في مجال إثنولوجيا الموسيقى في كلية دراسات المشرق وأفريقيا في جامعة لندن حيث تجري بحثها عن إرث حلب الموسيقي.

Clara Wenzهواة الموسيقى الحلبيون – السميعة