المدوّنة

سمفونية شارع حلب، 1935

ريبيكا ديكيرد مارس 21, 2016

لا تستقيظ في حلب على زقزقة الحسون أو تغريد العندليب، بل على صوت أجش يصيح تحت النافذة “حلو حليييييب”. تلك الولولة المثابرة التي تضرب الوتر الحساس تطارد النوم بعيداً وما تلبث حتى أن تغويك فعلاً بالخروج وشراء الحليب الحلو اللذيذ القادم من البقرة للمستهلك فوراً. فأمام الباب تنظر بقرة الجيرزي المزينة بالخرز الأزرق.

يكتمل تحضير الفطور مع قدوم الرجل الأحدب قصير القامة حاملاً على عصاه حلقات الخبز الدائري المفتول. يصيح البائع بنغمة كروماتيكية متدرجة من علامة الريه إلى الفا على السلم الموسيقي بالعلامة المنقّطة الثامنة والسادسة عشرة بصوت يقول “كا-كا-كا-كعك”.

ما هي إلى دقائق حتى يمر حمار محمل بالطماطم الناضجة الشهية ويصيح الولد بجواره “بندورة، بندورة” بذات الطريقة التي نغني نحن فيها “هَلِّلُويَا، هَلِّلُويَا” من معزوفة المسيح للموسيقار هاندل.

يظهر بائع طموح آخر بصوت متدرج الارتفاع كالترومبون محاولاً ما بوسعه لفت انتباه ربات المنازل السوريات لسرج حماره المملوء لأقصاه بالباذنجان الأسود اللامع. نداؤه يختلف بالتسارع ويبدأ بالصوت العالي وينتهي بصدى خفيف قائلاً “أسود بيدنجان، أسود”.

ها هو سنّان المقصات، الذي قد يعزف المزمار في سيمفونية الشارع هذه. ما يميزه هو انتقاله من ريه إلى دو، علامتين طويلتين وكاملتين يكررهما دوماً بالنبرة ذاتها من دون أدنى اختلاف.

يرن الولد جامع القمامة جرسه الضخم المكون من علبة معدنية قديمة بقبضة يده وهو يتكئ على مؤخرة عربة القمامة مصدراً إيقاعاً يلاحقك أينما ذهبت. إن حُرم أحدهم من رائحة ومنظر القمامة سيقوم طبل القمامة الغريب هذا بتصوير منصة رائعة يمشي عليها الملوك والأميرات مشية شرقية مهيبة فاتنة.

في سوق النحاسين إلى الأمام قليلاً تشاهد ما يكفي كل عازفي الأوركسترا في العالم من صنوج. يفقدك النشاز السمع حيث يدق النحاسون بضربات متوالية على قدور الطبخ الضخمة التي يزركشونها. النقرات الفاتنة للصناجات ليست إلا بائع عصير ليمون ينقر صحنين نحاسيين صغيرين في يده. يبلغ النقر في حر الظهر ذروته في حين تتزاحم العامة للحصول على دور للشرب من سبيل الماء. عجائز وأطفال صغار وبدويات جديرات بالتصوير مرتديات خرق النور الفاقعة.    

أجراس عربات التزلج؟ سانتا كلوز وغزالَي الرَّنَة؟ لا. إنها فقط مجموعة أخرى من الحمير تتمختر وهي نازلة في الشارع وكأنها تتحرك على أنغام موسيقى أليغرو. يتحول المزاج للإيقاع البطيء فجأة حين نسمع الرنّة الناعمة لأجراس الجمل.

لا تنتهي سيمفونيتنا مع الغروب، فمع هدوء المساء وفي العراء تحت النجوم، يعزف الولد الراعي على قصبته وهو يحرس خرفانه. إنها من دون شك أنغام “الناي السحري” لموزارت. يعاني ولد أرمني في وسط الليل محاولاً العزف على كمنتجته. هيا إلى النوم، هيا يا نوم… لا أستطيع أن أنام.  يلقي ناطور الليل عصاه على الأرض ليحذر اللصوص المحتملين من أنه لهم بالمرصاد. بعدها يبدأ الحفيف المستمر لكانسي الطريق الذين ينظفون المكان لبداية يوم جديد، “حلو حليب”.

ريبيكا ديكيرد، 1935. حلب، سوريا

“وجدت أمي الموسيقى في الأصوات اليومية من حولها.” هذا ما قالته بيتسي ديكيرد لاين لمشروع حلب عن هذه الرسالة التي تصف ريبيكا خلالها الأصوات في الشارع بمصطلحات موسيقية. عاشت السيدة لاين مع والديها وأخوتها في حلب في أوائل الثلاثينيات من القرن المنصرم كما عاشت هناك مع زوجها وأطفالها في الستينيات. تضيف ابنتها قائلة: ” ترددت أن أرسل لكم هذه المقالة الرقيقة نظراً إلى الدمار الذي يحدث الآن لحلب، ولكن قد نكون بحاجة إلى ما يذكرنا بما كانت عليه حلب وما يمكن لها أن تكون مجدداً.”

Aleppo College American School. Photo: Aleppo College.

كلية حلب / معهد حلب العملي / مدرسة الأميركان

تخرجت ريبيكا ديكيرد من معهد أوبرلين الموسيقي في أوهايو وحصلت على شهادة الماجستير في آلة  الأرغن. كانت ريبيكا وزوجها دوغلاس مبشرين، معلمين، وعازفين في حلب وطرابلس اللبنانية ابتداءً من 1930 وحتى 1966. كان دوغلاس في الثلاثينيات موجهاً في مدرسة حلب الثانوية التي تطورت لاحقاً لتصبح كلية حلب أو معهد حلب العلمي أو” مدرسة الأميركان”. خدم بعدها كموجه لمدارس البنات والصبيان في طرابلس. كانت الموسيقى جزءاً مهماً من الحياة في المدارس الثلاث التي خدم فيها الزوجين ديكيرد.

ريبيكا ديكيردسمفونية شارع حلب، 1935