المدوّنة

متحف أفاميا: نزوح جوار ونزيف تراث

Mahmoud Barakat أغسطس 1, 2019

ليس مجرد بناء أو حجارة وبعض القطع الفخارية فقط، ولكنه أيضاً موقع أثري معرض لخطر متكرر ومتعدد الأطراف ومن ناحية أخرى يشهد على مجتمع محلي كرس الكثير لحماية تراثهم مرة بعد أخرى. يقع المتحف في مدينة قلعة المضيق في الاتجاه الشمالي الغربي من محافظة حماة ويبعد عن مركز المحافظة حوالي 65 كم تقريباً. يحتوي على قطع أثرية ولوحات فسيفسائية مكتشفة في أفاميا وما حولها تعود لأزمنة مختلفة، أبرزها الحقبتين الهيلنيستية والرومانية.

بعد تدهور وضع المتحف منذ بداية الصراع في سوريا وبالتحديد في منتصف عام 2012، قام الكثير من المختصين والمتطوعين بالمبادرة بأعمال حماية وصيانة للمتحف وعدة أبنية أخرى في مواقع مختلفة من المنطقة، كمتحف معرة النعمان ومواقع أثرية أخرى كالبارة وسرجيلا، وذلك كمبادرة تطوعية حرصاً ووعياً منهم على ضرورة وأهمية تلك المقتنيات، إضافة إلى ضرورة دورهم كمختصين في هذا المجال. في بداية شهر أيار من العام الحالي تصاعدت الاشتباكات في ريف حماة الشمالي، مما دفعني للإستعلام عن حال متحف أفاميا بالتحديد تبعاً لموقعه القريب من الإشتباكات. فالكثير من ذكرياتي في العمل التطوعي نُسجت بين حجارته وجدرانه. خلال السنوات الماضية كان لي الشرف بإنجاز بعض الأعمال المتواضعة للمتحف في بعض زيارات ميدانية حيث استطعت أن أساهم بشيء بسيط  لذلك المبنى (حماية القطع الأثرية وترميم وتقييم الأضرار في المبنى ومحتوياته). شاهدت وعاينت عن كثب الجهود الكبيرة المبذولة من قبل المنظمات التراثية المحلية الواعية بأهمية تلك المواقع وضرورة حمايتها.

في بداية الحرب في سوريا انتشرت عمليات السلب والنهب والتنقيب وقد كانت حالات فردية، نتيجة لعدم وجود رقابة، إلا أن بعض الجمعيات والمنظمات المحلية والدولية (المعنية بشؤون التراث) استطاعت أن تتدارك ما تبقى وتؤمن الحماية الكافية لتلك المواقع الأثرية بالرغم من المخاطر في كثير من المواقع والحالات. لكن للأسف شهد المتحف مؤخراً اشتباكات عنيفة بين قوات النظام والمعارضة، وبسبب موقعه في خط المواجهة بين فصائل المعارضة وقوات النظام، أما عن وضع الحالي للمتحف فقد أصبح تحت سيطرة قوات النظام في قلعة المضيق.

يعود تاريخ البناء إلى عهد السلطان العثماني سليمان القانوني في أواسط القرن السادس عشر الميلادي. البناء وظيفياً عبارة عن خان، وكانت الغاية من بنائه استقبال القوافل والحجاج المتجهين إلى مكة. والخان عبارة عن بناء مربع الشكل وبطول ضلع 83م تقريباً، وأرضية حجرية مبلطة يتوسطها سبيل ماء. أعيد ترميم المتحف في عام 1982م من قبل المديرية العامة للآثار والمتاحف، وافتُتح كمتحف للوحات الفسيفساء المكتشفة في مدينة أفاميا والمواقع المجاورة.

تعرض المتحف الأثري لأضرار في البناء والمحتوى أيضاً. كل طرف يُلقي اللوم ويتهم الآخر بالأضرار وأعمال النهب التي تعرض له المتحف والموقع الأثري. ففي عام 2012 نشرت وكالة فرانس24 تقريراً عن المواقع والكنوز الأثرية وحالتها في سوريا وحال موقع أفاميا ومتحفها وما تعرضت له من نهب وتخريب. وفي تقرير لشذى المداد في داماس بوست تقول فيه أن هذه ليست المرة الاولى التي يُعتدى فيها على متاحف في محافظة حماة دون أن تفعل الحكومة شيئاً، فقد تعرّض متحف أفاميا في حماة للسرقة والسلب من قبل مجهولين ـ وصفتهم المديرية العامة للآثار بأنهم عصابات مسلحة ـ وقامت بسرقة لوحات ذات قيمة عالية منه.

حديثاً أشار الدكتور محمود حمود مدير الآثار والمتاحف في تصريح لـ سانا الثقافية إلى أن المتحف قد تعرض لأعمال سلب وتخريب الكثير من محتوياته على يد العصابات المسلحة. حيث أن مسح الأضرار الأولي من قبل المديرية يوضح تعرض الكثير من اللوحات الاثرية والقطع الاثرية لسلب وتخريب، إضافةً لتعرض البناء بحد ذاته للكثير من الضرر في الأعمدة والجدران ووجود أدلة تشير الى أعمال تنقيب غير شرعية. في حين وصف نايف القدور، وهو باحث أثري، في مقال له في موقع بوابة سوريا نشر في بداية شهر أيار 2019 استهداف قوات النظام المتمركزة في الجزء العلوي من قلعة المضيق المتحف بأسلحة مختلفة عدة مرات، مما تسبب في أضرار مختلفة. خلال الأعوام القليلة الماضية، قام مركز “حماية التراث السوري” (منظمة سورية محلية تعنى بحماية الآثار والتراث) بجهود كبيرة من خلال مجموعة من الآثاريين والأكاديميين السوريين المختصين لحفظ العديد من المواقع الأثرية في عدة مناطق في سوريا كمتحف معرة النعمان و متحف أفاميا لحماية الآثار والعناية بالمحتويات المتبقية فيها.

تواصلت هاتفياً مع عبدالرحمن اليحيى، مدير متحف معرة النعمان ومركز حماية التراث الثقافي، للاستعلام عن وضع المتحف إلى حين سقوطه بيد النظام، فأوضح أنه خلال السنوات الأربع الأخيرة تمكن المركز من إعداد دراسة تفصيلية بأعمال الصيانة والحماية الإنشائية وتنظيف المتحف بشكل كامل وترميم الأضرار التي تعرض لها نتيجة العمل العسكري. تضمن العمل توفير حماية القطع الأثرية الموجودة في المتحف، إضافة إلى تنفيذ حماية لوحات الفسيفساء حيث تم حفظها في طبقة من القماش مغطاة بأكياس من الرمل، وإحاطة القطع مثل التوابيت والقطع الفخارية بشكل كامل بأكياس من الرمل. كما قاموا بوضع القطع الأثرية الصغيرة في مكان آمن وحفظها وفق أسس تقنية. استمر المركز بالعمل في المتحف حتى دخول قوات النظام السوري إليه بالعمل العسكري الأخير. 

لايزال الوضع الراهن للمتحف مجهول فليس هناك أي إشارات تدل على وضعه الحالي بعد تصاعد الصراع في إدلب وريف حماه الشمالي. ولكن يبقى المعلوم الوحيد هو تهجير وإقصاء السكان المحليين وكل من بذل جهداً خلال الحرب لحفظ ما أمكن من المتحف ومقتنياته. أظهرت الأيام الماضية استمرار التصعيد وازدياد الخطر مناطق النزاع في سوريا، وتبقى منطقة إدلب والمناطق المحيطة بها الأشد خطراً على البشر والحجر. على المنظمات الدولية المعنية التدخل لحماية هذه الآثار من الضرر والسرقة، وحفظ ما تبقى من متحف أفاميا وبقية المواقع الاثرية في سوريا بمختلف مواقعها. فهذا التراث ليس ملكاً لحكومة أو أشخاص، إنه ملك للجميع، سوريين أو غيرهم. الأولوية الآن هي الضغط من قبل المجتمع الدولي بجميع لاعبيه لوقف الهجمات على مناطق النزاع في سوريا.

Mahmoud Barakatمتحف أفاميا: نزوح جوار ونزيف تراث