المدوّنة

بينما يثير التدخل التركي إدانة واسعة النطاق، لم يلقى تدمير أربعة مستشفيات في 12 ساعة سوى الصمت

م.ب. نوفمبر 12, 2019

قرأت التقرير المنشور باللغتين الإنكليزية والعربية في صحيفة نيويورك تايمز في 13 أكتوبر 2019 بعنوان “قامت روسيا بقصف أربع مشافي في سورية خلال١٢ساعة فقط. استطعنا إثبات ذلك” الذي يتضمن تحقيق حول الهجمات الروسية على أربعة مستشفيات في محافظة إدلب شمال سوريا. هذه المستشفيات هي: مستشفى نبض الحياة الجراحي، مستشفى كفرنبل الجراحي، مستشفى كفرزيتا ومستشفى الأمل لجراحة العظام.

استندت الصحيفة على عدة أدلة: مجموعة من التسجيلات الصوتية للقوات الجوية الروسية حصلت عليها التايمز، مشاركات على مواقع التواصل الاجتماعي من سوريا في يوم قصف المستشفيات، مقابلات مع شهود العيان وسجلات المنظمات الإنسانية التي تدعم المستشفيات الأربعة. ما يلفت النظر في التقرير هو تحليل الإثباتات وتقاطعها من عدة مصادر للتأكيد على من قام بالقصف، وكيفة وضع الأدلة بوضوح في كل من التقرير المكتوب والفيديو المرافق حول من قصف المستشفيات في شمال سورية في شهر أيار 2019.

 مباشرةً أعادني هذا التقرير في الذاكرة لتلك المنطقة التي عشت فيها معظم حياتي. أصبح معظمها كتلاً من الخراب وخالية فعلياً من سكانها نتيجة استمرار القصف الذي أدى لنزوح مايقارب 450 ألف حسب منظمة أطباء بلا حدود بين شهري نيسان وتموز 2019. مئات آلاف النازحين يعيشون في ظروف غير صحية ومروعة. العديد من ملاجئ الإيواء أصبحت مكتظة جداً وبنيتها التحتية غير كافية، ما يشكل بيئة خصبة لتفشي الأمراض. إزداد الوضع سوءاً عند خروج معظم البنى التحتية عن الخدمة (القطاع الصحي والاسعافي) بسبب الهجمات المكثفة من قبل قوات النظام. بغضون نصف يوم أو أقل بين 5 و6 من أيار 2019 خرجت أربعة مستشفيات عن الخدمة. هذا الاستهداف نتج عنه فجوة كبيرة ونقص في القطاع الطبي الاسعافي في وقت حرج جداً والحاجة الماسة للإسعافات الفورية.

أدت أربع ضربات دقيقة استهدفت مستشفى كفرنبل الجراحي بشكل متتالي إلى مقتل شخص وأجبرت العاملين على إخلاء المستشفى. سجل مراقبون مشاهدة طائرة روسية تحلق في الأجواء أثناء وقت الغارة، وفي تسجيل آخر للقوات الجوية الروسية، أبلغ طيار أنه “نفذ” هدفه في الساعة ٥:٣٠ مساءً، وهو نفس وقت الغارة. ثم أبلغ الطيار عن ثلاث غارات بفارق يقدر بحوالي الخمس دقائق مما يتطابق مع التسلسل الزمني الذي أدلى به طبيب من العاملين في المشفى خلال الهجمات.

خلال مشاهدة الفيديو المرافق للتقرير، حصل تبدل سريع في مشاعري، بين قهر وحزن وقلق، مزيج من المشاعر من الصعب وصفها حين شاهدت كل تلك البلدات أصبحت كوم من دمار وركام ملطخة بدماء أصحابها. بسبب حملة القصف الهمجية، اضطر السكان للنزوح المباشر والعشوائي – أهلي، أقاربي، أهل بلدتي، جيراني، والقرى المجاورة جميعها، أصبح كل شخص مشتت وفي مكان عشوائي، بحثاً عن مكان آمن.

بالعودة إلى التقرير وتفاصيله، كانت المستشفيات تخدِم القاطنين طبياً بعيداً عن أي مواقع عسكرية، ولكن ذلك لم يكن كاف لتكون خارج استهداف النظام. تمكنت من التعرف على صوت أحد الشهود في التسجيل، أحد أطباء البلدة كان يصف بعض ما شاهد وأثبتت بعد ذلك من خلال تتبع تسجيلات الطيارين الروس. الطبيب كان من أحد زملائي في الصف في الثانوية العامة، لم يهاجر للنقص في الأطباء. أراد أن يخدم الناس وإن كان ذلك يكلفه حياته.

التقرير يوثق بوضوح الجرائم التي ترتكب بحق الناس الأبرياء. في اللحظة التي أنهيت فيها قراءة التقرير ظننت أن هذا سيكون دليل قطعي لإدانة روسيا والنظام. ولكن تذكرت بينما هناك أكوام من أدلة قطعية مثبتة وحتى الآن لم يتم القيام بأي شيء لوقف الجرائم والقصف الوحشي بشكل دائم. أصبح الصمت الدولي والجهل المتعمد للكارثة الإنسانية والإبادة الجماعية المستمرة في شمال سوريا هو الوضع الراهن.

بينما يستمر العالم بتجاهل مأساة أربعة ملايين نسمة محاصرين في إدلب، أثارت العملية التي قادتها تركيا “نبع السلام” العديد من المظاهرات في جميع أنحاء أوروبا وأماكن أخرى وإدانة دولية. عملية “نبع السلام” التركية التي استهدفت قوات سوريا الديمقراطية بين منطقة تل أبيض ورأس العين والتي تسببت بمقتل وإصابة عشرات المدنيين وتهجير ما يزيد عن300 ألف من السكان الذين يبقى مصير عودتهم مجهولاً. التضامن واسع النطاق وتجدد الأنتباه يثبت أن العديد من الدول والمنظمات الحقوقية ليست غافلة عما يحصل في سوريا، وينبغي أن ينظر إليه على أنه خطوة إيجابية.

ومع ذلك أنا مجبر أن أسال نفسي عن كل هذه المفارقات بين الغضب الأخير على العملية التركية ونقص الغضب والانتباه إلى المحنة المستمرة للمدنيين السوريين الذين استهدفهم النظام وحلفاؤه بشكل عشوائي؟

بينما تنشغل الدول والصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي بعملية “نبع السلام” والأزمة الناتجة عنها في شمال شرق سوريا، قصف عنيف ترافقه غارات جوية في ريف إدلب الجنوبي يحدث يومياً لأكثر من نصف عام. ربما المجتمع الدولي يقلل من قيمة النازحين في إدلب أو سئموا من سماعهم. للأسف، في حين أن “نبع السلام” انتزع الأضواء الدولية خلال الأسابيع القليلة الماضية، يشتد قصف قوات النظام لإدلب، ويتزايد أعداد الضحايا من قتلى ومجروحين ومُهجّرين.

نتائج “ربيع السلام” غير معروفة حتى الآن، لكن النتائج المأساوية حتى الآن جديرة بالصراخ والإدانة الدوليين. ومع ذلك، لا بد لي أن أسأل: لماذا ستة أشهر من القصف المتواصل الذي أودى بحياة العشرات وأجبر مئات الآلاف على التشرد لا يكفي لإثارة غضب، ألم يكن كافياً أن نرى مدنيين في إدلب يواجهون مصيرهم المجهول بمفردهم وبصمت وأمام نظر العالم بأجمعه؟ أم بعد ثمانية أعوام، هل فقد العالم اهتمامه بالصراع السوري؟

 

 

 

 

م.ب.بينما يثير التدخل التركي إدانة واسعة النطاق، لم يلقى تدمير أربعة مستشفيات في 12 ساعة سوى الصمت